فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وحكى الطبرسي عن الرضا رضي الله تعالى عنه أن من اعتقد الحق ثم أذنب ولم يتب عذب في البرزخ ويخرج يوم القيامة وليس له ذنب يسأل عنه، ولعمري إن الرضا لم يقل ذلك، وحمل الآية عليه مما لا يلتفت إليه بعين الرضا كما لا يخفى، وضمير ذنبه للإنس وهو متقدم رتبة لأنه نائب عن الفاعل، وإفراده باعتبار اللفظ، وقيل: لما أن المراد فرد من الإنس كأنه قيل: لا يسأل عن ذنبه إنسي ولا جنى، وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد {ولا جأن} بالهمزة فرارًا من التقاء الساكنين وإن كان على حدّه.
{فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} يقال فيه نحو ما سمعت في سابقه.
{يُعْرَفُ المجرمون} استئناف يجري مجرى التعليل لانتفاء السؤال، و{كَرِهَ المجرمون} قيل: من وضع الظاهر موضع الضمير للإشارة إلى أن المراد بعض من الإنس وبعض من الجن وهو المجرمون فيكون ذلك كقوله تعالى: {لاَّ يُسْئَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون} [القصص: 78]، وسيماهم على ما روي عن الحسن سواد الوجوه وزرقة العيون، وقيل: ما يعلوهم من الكآبة والحزن، وجوز أن تكون أمورًا أخر كالعمى، والبكم، والصمم.
وقرأ حماد بن سليمان بسيمائهم، {فَيُؤْخَذُ بالنواصى} جمع ناصية وهي مقدم الرأس {والاقدام} جمع قدم وهي قدم الرجل المعروفة والباء للآلة مثلها في أخذت بخطام الدابة، والجار والمجرور نائب الفاعل، وقال أبو حيان: إن الباء للتعدية والفعل مضمن معنى ما يعدي بها أي فيسحب بالنواصي الخ، وفيه بحث.
وظاهر كلام غير واحد أن أل عوض عن المضاف إليه الضمير أي بنواصيهم وأقدامهم، ونص عليه أبو حيان فقال: أل فيهما عوض عن الضمير على مذهب الكوفيين، والضمير محذوف على مذهب البصريين أي بالنواصي والأقدام منهم، وأنت تعلم أن الخلاف بين أهل البلدين فيما إذا احتيج إلى الضمير للربط ولا احتياج إليه هنا، نعم المعنى على الضمير وكيفية هذا الأخذ على ما روي عن الضحاك أن يجمع الملك بين ناصية أحدهم وقدميه في سلسلة من وراء ظهره ثم بكسر ظهره ويلقيه في النار، وقيل: تأخذ الملائكة عليهم السلام بعضهم سحبًا بالناصية وبعضهم سحبًا بالقدم، وقيل: تسحبهم الملائكة عليهم السلام تارة بأخذ النواصي وتارة بأخذ الأقدام، قالوا بمعنى أو التي للتقسيم وهو خلاف الظاهر، وإبهام الفاعل لأنه كالمتعين، وقيل: للرمز إلى عظمته فقد أخرج ابن مردويه والضياء المقدسي في صفة النار عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «والذي نفسي بيده لقد خلقت ملائكة جهنم قبل أن تخلق جهنم بألف عام فهم كل يوم يزدادون قوة إلى قوتهم حتى يقبضوا على من قبضوا بالنواصي والإقدام».
{فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} يقال فيه نحو ما تقدم، وقوله تعالى: {هذه جَهَنَّمُ التي يُكَذّبُ بِهَا المجرمون} مقول قول مقدر معطوف على قوله تعالى: {يُؤْخَذْ} [الرحمن: 41] إلخ أي ويقال هذه إلخ.
أو مستأنف في جواب ماذا يقال لهم لأنه مظنة للتوبيخ والتقريع، أو حال من أصحاب النواصي بناءًا على أن التقدير نواصيهم أو النواصي منهم، وما في البين اعتراض على الأول والأخير وكان أصل {التى يُكَذّبُ بِهَا المجرمون} التي كذبتم بها فعدل عنه لما ذكر للدلالة على استمرار ذلك وبيان لوجه توبيخهم وعلته.
{يَطُوفُونَ بَيْنَهَا} أي يترددون بين نارها {وَبَيْنَ حَمِيمٍ} ماء حار {آن} متناه إناه وطبخه بالغ في الحرارة أقصاها، قال قتادة: الحميم يغلي منذ خلق الله تعالى جهنم والمجرم ويعاقب بين تصلية النار وشرب الحميم، وقيل: يحرقون في النار ويصب على رؤوسهم الحميم، وقيل: إذا استغاثوا من النار جعل غياثهم الحميم، وقيل: يغمسون في واد في جهنم يجتمع فيه صديد أهل النار فتنخلع أوصالهم ثم يخرجون منه وقد أحدث الله تعالى لهم لخقًا جديدًا، وعن الحسن أنه قال: {آن} النحاس انتهى حره، وقيل: {آن} حاضر.
وقرأ السلمي {يطافون}، والأعمش، وطلحة، وابن مقسم {يَطُوفُونَ} بضم الياء وفتح الطاء وكسر الواو مشددة، وقرئ {يَطُوفُونَ} أي يتطوفون.
{فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} هو أيضًا كما تقدم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37)}.
تفريع إخبار على إخبار فرع على بعض الخبر المجمل في قوله: {سنفرغ لكم أيها الثقلان} [الرحمن: 31] إلى آخره، تفصيل لذلك الإجمال بتعيين وقته وشيء من أهوال ما يقع فيه للمجرمين وبشائر ما يعطاه المتّقون من النعيم والحبور.
وقوله: {فكانت وردة} تشبيه بليغ، أي كانت كوَرْدة.
والوَرْدَة: واحدة الورد، وهو زهر أحمر من شجرة دقيقة ذات أغصان شائكة تظهر في فصل الربيع وهو مشهور.
ووجه الشبه قيل هو شدة الحمرة، أي يتغير لون السماء المعروف أنه أزرق إلى البياض، فيصير لونها أحمر قال تعالى: {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات} [إبراهيم: 48].
ويجوز عندي: أن يكون وجه الشبه كثرة الشقوق كأوراق الوردة.
والدهان، بكسر الدال: دردي الزيت.
وهذا تشبيه ثان للسماء في التموج والاضطراب.
وجملة {فبأي ألاء ربكما تكذبان} معترضة بين جملة الشرط وجملة الجواب وقد مثّل بها في (مغني اللبيب) للاعتراض بين الشرط وجوابه، وعينّ كونها معترضة لا حالية، وهذه الجملة معترضة تكرير للتقرير والتوبيخ كما هو بيّن، وانشقاق السماء من أحوال الحشر، أي فإذا قامت القيامة وانشقت السماء.
كما قال تعالى: {فيومئذ وقعت الواقعة وانشقت السماء} [الحاقة: 15، 16] أن قوله: {يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية} [الحاقة: 18].
وهذا هو الانشقاق المذكور في قوله: {ويوم تشقق السماء بالغمام ونزل الملائكة تنزيلًا الملك يومئذ الحق للرحمن} في سورة الفرقان (25، 26).
وجملة {فيومئذ لا يسأل عن ذنبه} إلخ جواب شرط (إذا).
واقترن بالفاء لأنها صُدرت باسم زمان وهو {يومئذٍ} وذلك لا يصلح لدخول (إذا) عليه.
ومعنى {لا يسئل عن ذنبه}: نفي السؤال الذي يريد به السائل معرفة حصول الأمر المتردّد فيه، وهذا مثل قوله تعالى: {ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون} [القصص: 78].
وليس هو الذي في قوله تعالى: {فوربك لنسألنهم أجمعين عمّا كانوا يعملون} [الحجر: 92، 93] وقوله: {وقفوهم إنهم مسؤولون} [الصافات: 24]، فإن ذلك للتقرير والتوبيخ فإن يوم القيامة متسع الزمان، ففيه مواطن لا يسأل أهل الذنوب عن ذنوبهم، وفيه مواطن يسألون فيها سؤالًا تقرير وتوبيخ.
وجملة {فبأي ألاء ربكما تكذبان} تكرير للتقرير والتوبيخ.
{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41)}.
هذا استئناف بياني ناشىء عن قوله: {فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان} [الرحمن: 39]، أي يستغنى عن سؤالهم بظهور علاماتهم للملائكة ويعرفونهم بسيماهم فيؤخذون أخذ عقاب ويساقون إلى الجزاء.
والسيما: العلامة.
وتقدمت في قوله تعالى: {تعرفهم بسيماهم} في آخر سورة البقرة (273).
و(آل) في {بالنواصي والأقدام} عوض عن المضاف إليه، أي بنواصيهم وأقدامهم وهو استعمال كثير في القرآن.
والنواصي: جمع ناصية وهي الشعَر الذي في مقدّم الرأس، وتقدم في قوله تعالى: {ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها} في سورة هود (56).
والأخذ بالناصية أخذ تمكّن لا يفلت منه، كما قال تعالى: {لئن لم ينته لنسفعن بالناصية} [العلق: 15].
والأقدام: جَمع قَدَم، وهو ظاهر السَّاق من حيث تمسك اليد رجل الهارب فلا يستطيع انفلاتًا وفيه أيضًا يوضع القيد، قال النابغة:
أوْ حرة كمهاة الرمل قد كُبِلت ** فوقَ المعاصم منها والعراقيب

{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42)}.
تكرير كما تقدم في نظيرها الذي قبلها.
{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44)}.
هذا مما يقال يوم القيامة على رءوس الملأ.
ووصف {جهنم} بـ {التي يكذب بها المجرمون} تسفيه للمجرمين وفضح لهم.
وجملة {يطوفون} حال من {المجرمون}، أي قد تبين سفه تكذيبهم بجهنم اتضاحًا بينًا بظهورها للناس وبأنهم يترددون خلالها كما ترددوا في إثباتها حين أنذروا بها في الدنيا.
والطواف: ترداد المشي والإِكثار منه، يقال: طاف به، وطاف عليه، ومنه الطواف بالكعبة، والطواف بالصفا والمروة، قال تعالى: {فلا جناح عليه أن يطَّوف بهما} وتقدم في سورة البقرة (158).
والحميمُ: الماء المغلَّى الشديد الحرارة.
والمعنى: يمشون بين مكان النار وبين الحميم فإذا أصابهم حرّ النار طلبوا التبرد فلاح لهم الماء فذهبوا إليه فأصابهم حرُّه فانصرفوا إلى النار دَوَاليْك وهذا كقوله: {وإن يستغيثوا يغاثوا بماء كالمهل} [الكهف: 29].
وآنٍ: اسم فاعل من أنَى، إذا اشتدت حرارته.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)}.
مثل موقع الذي قبله في التكرير. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{يا معشر الجن والإنس}.
واختلف الناس في معنى قوله: {إن استطعتم أن تنفذوا} الآية، فقال الطبري، قال قوم: في الكلام محذوف وتقديره: يقال لكم {يا معشر الجن والإنس}، قالوا وهذه حكاية عن حال يوم القيامة في {يوم التنادّ} [غافر: 32] على قراءة من شدد الدال. قال الضحاك: وذلك أنه يفر الناس في أقطار الأرض، والجن كذلك، لما يرون من هول يوم القيامة، فيجدون سبعة صفوف من الملائكة قد أحاطت بالأرض، فيرجعون من حيث جاؤوا، فحينئذ يقال لهم: {يا معشر الجن والإنس}. وقال بعض المفسرين: بل هي مخاطبة في الدنيا. والمعنى: {إن استطعتم} الفرار من الموت ب {أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض}. وقال ابن عباس المعنى: إن استطعتم بأذهانكم وفكركم أن تنفذوا فتعلموا علم أقطار السماوات والأرض. والأقطار: الجهات.
وقوله: {فانفذوا} صيغة الأمر ومعناه التعجيز، والسلطان هنا القوة على غرض الإنسان، ولا يستعمل إلا في الأعظم من الأمر والحجج أبدًا من القوي في الأمور، ولذلك يعبر كثير من المفسرين عن السلطان بأنه الحجة. وقال قتادة: السلطان هنا الملك، وليس لهم ملك، والشواظ: لهب النار. قاله ابن عباس وغيره. وقال أبو عمرو بن العلاء: لا يكون الشواظ إلا من النار وشيء معها، وكذلك النار كلها لا تحس إلا وشيء معها. وقال مجاهد: الشواظ، هو اللهب الأخضر المتقطع، ويؤيد هذا القول. قول حسان بن ثابت يهجو أمية بن أبي الصلت:
هجوتك فاختضعت حليفا ذل ** بقاقية تؤجج كالشواظ

وقال الضحاك: هو الدخان الذي يخرج من اللهب وليس بدخان الحطب.
وقرأ الجمهور: {شُواظ} بضم الشين. وقرأ ابن كثير وحده وشبل وعيسى: {شِواظ} بكسر الشين وهما لغتان.
وقال ابن عباس وابن جبير: النحاس الدخان، ومنه قول الأعشى: المتقارب:
تضيء كضوء سراج السليط ** لم يجعل الله فيه نحاسا

السليط دهن السراج. في النسخ التي بأيدينا دهن الشيرج.
وقرأ جمهور القراء: {ونحاسٌ} بالرفع عطفًا على {شواظ}، فمن قال إن النحاس: هو المعروف، وهو قول مجاهد وابن عباس أيضًا قال يرسل عليهما نحاس: أي يذاب ويرسل عليهما. ومن قال هو الدخان، قال ويعذبون بدخان يرسل عليهما. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والنخعي وابن أبي إسحاق: {ونحاسٍ} بالخفض عطفًا على {نار}، وهذا مستقيم على ما حكيناه عن أبي عمرو بن العلاء. ومن رأى الشواظ يختص بالنار قدر هنا: وشيء من نحاس. وحكى أبو حاتم عن مجاهد أنه قرأ: {ونِحاسٍ} بكسر النون والجر. وعن عبد الرحمن بن أبي بكرة أنه قرأ: {ونَحُسّ} بفتح النون وضم الحاء والسين المشددة، كأنه يقول: ونقتل بالعذاب. وعن أبي جندب أنه قرأ: {ونحس}، كما تقول: يوم نحس، وحكى أبو عمرو مثل قراءة مجاهد عن طلحة بن مصرف، وذلك لغة في نحاس، وقيل هو جمع نحس.